الكاتبة: أحلام أحمد بكري
داعب سمعي صوت غريب بينما كنتُ نائمة، فتحتُ عيني على التفاف أخوتي حول أبي الحبيب، فقد جلب شيئاً جديداً لمنزلنا، يقوم بتشغيله أمامهم، يعلمهم طريقة عمل الجهاز.
جهاز مربع الشكل عليه أسطوانة دائرية الشكل سوداء، يضع عليها إبرة صغيرة أسفل حامل متحرك، ما أن بدأت بالعمل حتى صدح من خلالها صوت جميل وموسيقى رائعة.
مع انبهار إخوتي بذلك الجهاز الجديد، قفزتُ من سريري وتسللتُ بينهم، كلي فضول ما هذا الجهاز الجديد، كنت في الثامنة من عمري عام ١٤٠١هـ – ١٩٨١م ، ولم أرَ هذا الشيء من قبل..
ابتسم أخي الكبير قائلاً لي: هذا جهاز الموسيقى والأغاني اسمه (جراموفون) ضحكتُ على اسمه فقد كان صعباً بالنطق، كلما رددتُ اسمه ضحكتُ على نفسي.
كان يختلف عن المذياع الصغير الخاص بوالدي، الذي كان يحركهُ باحثاً عن الأخبار في إذاعة الشرق الأوسط، وبعضاً من حفلات السيدة أم كلثوم عبر إذاعة صوت العرب من القاهرة، والدي رحمه الله كان مثقفاً قارئاً متذوقاً للموسيقى والفنون.
أصبح الجهاز الجديد الشغل الشاغل لإخوتي، هذا يضع أسطوانة للعندليب الأسمر صادحاً بأرجاء المنزل:
– الموج الأزرق في عينيك يناديني نحو الأعمق
وأنا ما عندي تجربة في الحب ولا عندي زورق
إني أتنفس تحت الماء إني أغرق
وما أن تنتهي الأسطوانة حتى تركض أختي المولعة بوردة الجزائرية واضعة أسطوانتها الحبيبة -موكب الصبر- مرددة معها :
قصتي ما هي بلغز وحب جديد على الكون
ومحبتي لك عز، وعيد، وضي عيون
حاول تفهمني بصوتي بحروفي بقلبي
لا صوت يكفي ولا حروف تشفي.
بينما أختي الكبرى تحب الست أم كلثوم، لنحلق طيلة النهار مع القلب يعشق كل جميل، نستشعر وجودنا بالحرم المكي عندما تقول:
مكة وفيها جبال النور
طلّه على البيت المعمور
دخلنا باب السلام
غمر قلوبنا السلام
بعفو رب غفور
فوقنا حمام الحما
عدد نجوم السما
طاير علينا يطوف
ألوف تتابع ألوف
طاير يهني الضيوف
بالعفو والمرحمة
من خلال الأسطوانات تعرفتُ على الشعراء والملحنين، حيث كانت مكتوبة بوسط الأسطوانة، عرفتُ نزار قباني ومحمد الموجي والأمير بندر بن فيصل وسامي إحسان ومحمد بيرم التونسي ورياض السنباطي، والكثير.
عندما يحمل لنا والدي كل جديد لمنزلنا، نبتهج ونفرح وتتعالى ضحكاتنا، كان حدود تفكيرنا ذاك الوقت المتعة فقط، لم نعلم المغزى الأساسي من هذه العطايا والهبات التي يغدق بها والدي علينا إلا حينما نضجنا.
الجراموفون، كان إضافة رائعة من والدي ليثري ثقافتنا ويرفع من مستوى الزوق والحس الموسيقي بنا.
مليون شكر لوالدي رحمه الله..
وشكراً، للموسيقى الراقية هذبت الروح وطوعت العقل وسمت بالقلب وربت الجوارح على السلام، وحاربت في النفس العنف وسفك الدماء.