الكاتبة: أحلام أحمد بكري
نزولي من حافلة المدرسة صادف وجود حفريات أمام مدخل الحيِّ والكثير من العُمال يعملون على تمديدات أرضيّة، وعلب صغيرة الحجم يتم تعليقها على جدران المنازل، وطبعاً كالعادة في خضم هذه الأعمال يقفز الفضول لدينا نحن الأطفال لنقف بمنتصف الظهيرة والعرق يتصبب منّا جميعاً، لنشاهد ما يحدث.
نصف من نزل من تلك الحافلة المدرسية والنصف الآخر من طلاب المدرسة السعودية الابتدائية في الحي نقف على ذلك المشهد، ناهيك عن الأهالي وأصحاب بعض المحلات كلٌ يتابع ما يحدث؛ فهو شيء استثنائي يحدث داخل حيّ البلد.
كنت في السابعة من عمري عام ١٤٠٠هـ ١٩٨٠م وبعد التساؤلات عمّا يحدث اكتشفنا أن شركة الهاتف السعودي يمدون الحيّ بهواتف ثابتة.
لم أعِ ما معنى هواتف ولا كلمة ثابتة وقتها، بعد أن لفحتني حرارة الشمس وكاد أن يغلي رأسي منها؛ التففت حول الحي لأستطيع الدخول لمنزلنا من الخلف، ولا عجب فأهل الحي أدرى بشعابه.
عُدت للمنزل منطلقة كالعادة للمطبخ لأشاهد ماذا طبخت أمي على الغداء، وهذه عادة يومية لا أغفلها، ثم أشرع بعدها بإعداد سفرة الطعام على مقربة من وصول والدي من عمله، فهو المنقذ لي من أسئلتي المتكررة بعقلي، وأثناء الغذاء بدأتُ بالأسئلة وهو يجيب.
علمت أن الهاتف آلة اتصال بين الناس داخل المنزل، وكدتُ أطير فرحاً بأن أبي من المتقدمين لهذه الخدمة وسوف يكون بمنزلنا هاتف، تخيلت وقتها كيف سيكون شكله وأين سيضعه والدي، وكيف يمكنني استخدامه.
بعد ثلاثة أيام من العمل داخل الحيّ دخل والدي عصر ذلك اليوم وبيده كرتون ومعه أحد العُمال يقوم بتثبيت أسلاك الهاتف، فتح والدي الكرتون وأخرج الهاتف منه، كشيء خرافي، جاءنا من كوكب آخر، سلمه للعامل الذي أتم تركيبه وقام بتجربته، فإذا هو يرن بصوت عالٍ في صالة منزلنا، مابين الهلع والفرح كان ذلك الصوت يختلج في أُذني.
لم تكن جميع منازل الحي بها هواتف، فقط من تقدم بطلب الخدمة حصل عليها، وتسلسل الأرقام متتالية تُشبه بعضها بعضًا، التفّت العائلة كلها حوله، الكل يريد أن يجربه.
لم يكن بين أيدينا سوى رقم بيت جدي كتبه لنا أبي بورقة بجانب رقم هاتفنا، الذي لن أنساه ما حييت (٠٧/٣٢٢/١٤٤٩)
ثلاث أيام بلياليها وأنا أجلس بجانب ذلك الهاتف أتصل على بيت جدي وأسألهم عن أحوالهم، وعلى أرقام بعض الجيران أتطفّل عليهم وأصرح لهم بأني أحلام وأسأل عنهم وأطلب منهم بعض الأغراض، فلا أنسى يوماً اتصلت على جارتي الحنونة وطلبت منها قليلاً من الملح، أجابتني تعالي لأعطيك، انطلقت بسرعة فائقة لأصل لها خلال دقيقة لأقول لها: هل تسمعين صوتي بوضوح على الهاتف..؟!
تضحك عليّ وتعطيني الملح في يدي، فقد علمت أن لا حاجة لنا بالملح، ماهو إلا فرحة مني بذلك الهاتف.
الساعة السادسة صباحاً رن هاتف المنزل، استيقظ بعضنا على الصوت وهو يعلم أن المتصل بهذا الوقت جارتنا العزيزة التي سافرت مع زوجها المبتعث آنذاك بأمريكا، وبما أن منزلهم ليس به هاتف، كان هاتف منزلنا المنقذ لها والأقرب.
رددتُ عليها ببهجة عند سماعي لصوتها فهي محببة لقلبي كثيراً.
بعد سؤالها عن أحوالنا، قالت لي: هل أنتم بخير ..؟
ألم يحدث عندكم شيء..؟
قلت لها : لا ، قالت : سمعنا أن شيئاً حدث في مكة المكرمة وأردتُ الاطمئنان عليكم..!
قلت : إننا بخير والحمد لله.
وكالعادة أغلقت الهاتف لتعاود الاتصال بعد ربع ساعة، لينطلق أحد إخوتي لمنزلها لإحضار والدتها الغالية، كي تتحدث معها وتطمئن بسماع صوتها.
وبعد هذه المكالمة بستِ ساعاتٍ وصلنا عبر المذياع، اقتحام الحرم المكي الشريف من قبل طائفة إرهابية والاستيلاء عليه بقيادة شخص يُسمى جهيمان العتيبي.
يومٌ لا يُنسى في تاريخنا من الرُعب والبشاعة، بانتهاك أطهر مقدساتنا.