د. نايف بن سلطان الهاجري
لطالما عُرفت المجالس العربية، منذ الجاهلية وحتى صدر الإسلام، بكونها منابر للحكمة، ومحافل للرجال، ومواطن تُجلّ فيها الكلمة، وتُصان الهيبة، ويُحترم المقام. فهي ليست مجرد أماكن للجلوس والحديث، بل كانت مساحة للتوجيه والتربية الحسنة وبناء القيم ، وأحيانًا الحكم والقضاء. وكان للشعر فيها شأن عظيم، حيث يُلقى بوقار، ويُستمع إليه بإنصات، ويُزن بميزان العقل والرزانة. لكن ما نراه اليوم من تحولات في سلوك المجالس، خاصة ما يتعلّق بإلقاء القصائد وما يتبعها من رقص وهزٍّ للرؤوس والأكتاف وعلو أصوات التصفيق والهواتف، قد أذهب كثيرًا من هيبة المجالس، وحوّلها في بعض الأحيان إلى مشاهد عبثية بعيدة عن قيم مجتمعنا العربي السعودي الأصيل وأخلاقيات ديننا الحنيف.
والعرب الأوائل كانوا يجلّون مجالسهم ويجعلون لها مقامًا لا يُبتذل، وكانوا يرون في المجلس صورة عن صاحبه، فإن حسُن المجلس دلّ على عقل صاحبه ورجاحته وحكمته.
فمن لا يحفظ هيبة نفسه ومجلسه، فلا كرامة له بين الناس.
وكانت المجالس عندهم تُبنى على السكينة، وتُزيّن بالحكمة، ولا يُرفع فيها الصوت إلا بحق. قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ…” وهي آية ذات دلالات تربوية تعلّمنا أدب المجالس عموماً، وفيها إشارة إلى أن رفع الصوت وترك الوقار قد يُذهب بالأجر والهيبة.
لقد جسّد النبي محمد ﷺ أسمى صور الوقار في مجالسه، فكان إذا جلس، جلس بوقار، وإذا تكلّم أنصت له الجميع، وكان الصحابة لا يرفعون أصواتهم عنده، ولا يقاطعونه. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: “كان رسول الله ﷺ لا يَذُرُ جَلِيسَه حَتّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَنْصَرِفُ عَنْهُ” في إشارة إلى أدب واهتمام النبي بمن حوله.
كما أن النبي ﷺ كان يُعلّم أصحابه احترام المقام، والاتزان في القول والفعل، والبعد عن الصخب فكيف إذا كانت المجالس اليوم تُنتهك بالرقص والصياح بعد كل بيت من الشعر، وكأن القصيدة صارت وسيلة ترفيه لا رسالة وعي؟
هذه الظاهرة ـ ظاهرة الرقص في المجالس والتصفيق المبالغ فيه بعد القصائد ـ أفرغت كثيرًا من مجالسنا من الوقار، وأعطت انطباعًا بأن المجلس لا يُحترم فيه العقل بقدر ما يُستثار فيه الطرب وقد بات بعض الشعراء يكتبون القصائد لا لإيصال فكرة، بل لإثارة الحاضرين ودفعهم للرقص أو التفاعل “الصوتي”، مما يُفسد ذوق السامعين ويُشجّع على سطحية المحتوى.
المجالس مرآة المجتمعات، والهيبة فيها ليست بالتكلف بل بحُسن الأدب، ورزانة السلوك. فلنعد إلى هدي السلف، ولنجعل الشعر وسيلة للارتقاء لا للتسلية المبتذلة، ولنحفظ للمجالس مقامها، فهي موطن الكبار وأخلاق العظماء لا ملاعب للطيش.
والله وليّ التوفيق