أ. د محمد بن ناصر البيشي
حينما تنشأ بين عائلة كبيرة ممتدة فيها الجد والجدة والأم والأب والأسرة والجيران تمارس الحديث وتأنس بالأصوات ويطيب الكلام؛ وترتفع جودة الحياة.
حينما تنتقل إلى المدرسة تزداد صلتك بالناس ويضاف إلى حياتك كتيبة الزملاء وكلما بقيت في التعليم وتدرجت في مراحله زادت حصيلتك من الزملاء وتبادلت معهم الحديث وفن الكلام ونعمة التواصل، وارتقت جودة الحياة.
وحينما تنتقل للعمل وتقابل الجمهور والرئيس والمرؤوسين تتاح لك فرصة ثرية لبناء علاقات اجتماعية ويدور نقاش وحوارات، وتستمر جودة الحياة.
ثم تبدأ رحلة معاكسة تفارق فيها مجبرًا المنشأ؛ يتلوها مرحلة أخرى تغادر فيها مقاعد الدراسة وتختمها بمغادرة الوظيفة، فتشعر بانخفاض حاد لجودة الحياة.
وفجأة تجد نفسك وحيدًا في زاوية من الزاويا، وأول شيء تفتقده هو صوت إنسان والحديث إلى إنسان وتمر عليك ساعات وأيام صمت.
وتستبدل البيئة الاجتماعية التي اعتدت عليها وكنت تحسبها خالدة لا تفنى؛ إلى البديل الافتراضي عبر وسائط التواصل الاجتماعي التقني.
وتنصدم بحقيقة أنها جماد؛ وتدرك أنك تتعامل عن بعد وتفتقد المتعة وكأنك استبدلت الأكل المطبوخ بالأكل النيء، وتسافر من قلبك الطمأنينة ومعها ما تبقى من مشاعر الاستئناس بالإنسان ويسكنك الخوف من الحديث في ثالوث الخطر (الدين؛ السياسة؛ الجنس) حيث يراقبك ألف واحد وواحد، وتخشى من سوء الفهم والوقوع في الخطأ وتسوء حتى المرحلة الرابعة من محطات التواصل مع الآخرين وتبدأ الانسحاب منها تدريجيا وينتهي بك المطاف في عزلة وانقطاع عن كل الناس ما عدا القلة القليله، وتكاد تتوارى جودة الحياة.
وفجاة ترى النور في تواصلك مع الله، ومناجاتك له وتزداد سعادتك وتعيد النظر في أولويات الحياة، وتبدأ حياة جديدة مع الله، وبالله وفي ملكوت الله.
ثم تقرر الخروج من العزلة وتتعلم مهارات التواصل في دائرة أوسع من دائرة المدرسة والوظيفة ودوائر التواصل الاجتماعي الافتراضية.
ويعوضك الله بالصالح من أفراد الأسرة؛ والنبيل من أصدقاء الدراسة والعمل، والفضلاء من الناس، وتحارب كل مسبب للضيق بكلمة صادقة “إن معي الله” ذهب من ذهب؛ وبقي من بقي.
ويصدقك ظنك في الأوفياء بأنهم الذهب الخالص والباقون معك ساءت أحوالك أم حسنت؛ بعدت أم قربت؛ أخطأت أم أصبت؛ أعطيت أم بخلت من أمثالكم.
وتبدأ مرحلة ذهبية من حياتك تشعر فيها بسعادة نوعية؛ وتربط بين محبتك لله؛ وتوفيقه لك بحب آخرين لك وتشكر الله تعالى على ذلك قاعدًا وقائمًا.