بقلم الجزائرية المغتربة بفرنسا نعيمة معروف
في السنوات الأخيرة لم يعد الدور السعودي مقتصراً على محيطه العربي والإسلامي بل امتد ليشمل القضايا الدولية الكبرى ليصبح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لاعباً مؤثراً في مسار الأحداث العالمية، فقد جمع بين الرؤية الاستراتيجية والقدرة على اتخاذ المواقف المتوازنة مما جعل المملكة وسيطاً مقبولاً وشريكاً لا غنى عنه في ملفات معقدة تخص الغرب والشرق على حد سواء،
أبرز هذه القضايا كانت الحرب الروسية – الأوكرانية التي هزت العالم منذ بدايتها، وهنا برز دور الأمير محمد بن سلمان بوضوح حيث حرص على تبني سياسة متوازنة لا تنحاز لطرف على حساب الآخر إدراكاً منه أن الانحياز قد يفاقم الصراع ويطيل أمده، فقادت المملكة جهود وساطة مهمة بين موسكو وكييف كان من أبرزها التوسط في ملف تبادل الأسرى الذي أفضى إلى إطلاق سراح عشرات المحتجزين من جنسيات مختلفة وهو إنجاز لقي إشادة دولية واسعة، لم يكن هذا الموقف مجرد خطوة دبلوماسية بل رسالة تؤكد أن السعودية قادرة على أن تكون جسراً للحوار حتى بين أطراف أقليمية تتصارع عسكرياً.
كما أن ولي العهد وجه بتقديم مساعدات عاجلة للشعب الأوكراني من غذاء ودواء ووقود لمواجهة أزمات الحرب ليؤكد أن موقف المملكة لا يقف عند حدود التصريحات بل يمتد إلى دعم المدنيين على الصمود وفي الوقت نفسه حافظ على قنوات الحوار المفتوحة مع روسيا لدورها المحوري في ملفات الطاقة والأمن العالمي وهو ما جعل المملكة قادرة على تحقيق توازن نادر بين الغرب وموسكو في وقت بالغ الحساسية.
ومن القضايا الدولية والأقليمية التي كان لولي العهد دور مؤثر فيها العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية فبعد سنوات من التوترات تمكن من إعادة صياغة هذه العلاقة على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل بعيداً عن التبعية التقليدية ، لقد أوصل الأمير رسالة واضحة مفادها أن السعودية حليف استراتيجي للغرب لكنها في الوقت ذاته دولة مستقلة القرار تسعى لحماية مصالحها الوطنية والإقليمية هذا التوازن جعل الحوار السعودي – الأمريكي أكثر عمقاً حيث شمل قضايا الطاقة والأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب الى جانب الملفات الاقتصادية والاستثمارية.
وفي أوروبا، حرص الأمير محمد بن سلمان على بناء شراكات واسعة مع قادة القارة العجوز مستثمراً في مجالات الطاقة النظيفة والهيدروجين الأخضر ومشروعات التنمية المستدامة ليجعل من السعودية شريكاً رئيسياً في مواجهة التحديات البيئية التي تشغل الغرب كما أسهمت الدبلوماسية السعودية في دعم الاستقرار في أسواق الطاقة الأوروبية خصوصاً في ظل أزمة الغاز التي أثارتها الحرب في أوكرانيا مما جعل صوت الرياض مسموعاً في كل قمة اقتصادية كبرى.
ولا يمكن إغفال علاقاته المتنامية مع المؤسسات الدولية الغربية، حيث عمل على تعزيز الحضور السعودي في قمم مجموعة العشرين مقدماً رؤية متوازنة حول الأمن الغذائي العالمي وأمن الطاقة والاستقرار الاقتصادي فقد ربط بين ما يحتاجه الغرب من استقرار للطاقة والاقتصاد وما تحتاجه الدول النامية من دعم وتنمية، لتكون السعودية نقطة التقاء حقيقية بين الطرفين.
وإلى جانب الغرب، برزت قدرة ولي العهد على بناء علاقات استراتيجية متوازنة مع روسيا والصين دون أن يتخلى عن شراكاته التاريخية مع أوروبا وأمريكا هذا الانفتاح المتوازن أكسب المملكة ثقلاً دبلوماسياً جعلها عنصراً أساسياً في أي نقاش حول مستقبل النظام العالمي الجديد.
فمع روسيا، تمكن الأمير محمد بن سلمان من صياغة علاقة قائمة على التعاون في مجالات الطاقة من خلال اتفاقيات «أوبك+» إضافة إلى التنسيق السياسي في ملفات إقليمية معقدة حافظ على قنوات حوار مفتوحة مع القيادة الروسية مما جعل المملكة لاعباً رئيسياً في ضمان استقرار أسعار النفط العالمية وهو ملف يمس مصالح الغرب والشرق معاً.
أما مع الصين، فقد بنى الأمير محمد بن سلمان واحدة من أهم الشراكات الاستراتيجية في تاريخ العلاقات السعودية – الآسيوية فخلال زياراته إلى بكين واستقبال القادة الصينيين في الرياض تم توقيع عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والتكنولوجية شملت مجالات الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي والبنية التحتية والاستثمار الصناعي كما دعم مشروع «الحزام والطريق» بما يخدم المصالح المشتركة وجعل من المملكة محوراً مهماً للتواصل بين آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا هذه الشراكة مع الصين لم تكن مجرد تعاون اقتصادي، بل خطوة مدروسة لتعزيز استقلالية القرار السعودي وتنويع الحلفاء الدوليين.
لقد أدرك الأمير محمد بن سلمان أن القضايا الدولية لا تُدار فقط من داخل الغرف المغلقة، بل من خلال بناء جسور متينة مع القوى الكبرى وإيجاد توازن دقيق يتيح للمملكة أن تكون وسيطاً موثوقاً وشريكاً لا يمكن تجاوزه لذلك لم تقتصر جهوده على الوساطة في الحرب الروسية – الأوكرانية، بل امتدت إلى تقديم مساعدات إنسانية في مناطق مختلفة من العالم مؤكداً أن المملكة قادرة على الجمع بين الواقعية السياسية والقيم الإنسانية في آن واحد.
إن الدور الذي يلعبه اليوم ولي العهد السعودي في القضايا الغربية والشرقية معاً يمثل انتقالاً نوعياً في السياسة الخارجية للمملكة من مجرد لاعب إقليمي إلى صانع توازنات عالمية فقد أثبت أن السعودية ليست فقط دولة تملك النفط ، بل تمتلك رؤية ودوراً يجعلها عنصراً محورياً في الاستقرار العالمي وفي التحديات الكبرى التي تواجه العالم من الصراعات إلى الأزمات الاقتصادية والمناخية يواصل الأمير محمد بن سلمان الدفع بسياسة خارجية عقلانية وشجاعة تنطلق من مبدأ أن المملكة قادرة على أن تكون وسيطاً نزيهاً وشريكاً متيناً وقوة داعمة للاستقرار.
بهذا النهج فرضت السعودية بقيادته نفسها كلاعب رئيسي لا يمكن تجاوزه في أي معادلة دولية تخص الغرب أو الشرق.